فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

يقول تعالى مُذكرًا عباده المؤمنين نعمتَه عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عند إسلامهم، كما قالوا: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وأثرةً علينا، وألا ننازع الأمر أهله»، وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 8] وقيل: هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقيل: هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] قاله مجاهد، ومُقَاتِل بن حَيَّان. والقول الأول أظهر، وهو المحكي عن ابن عباس، والسُّدِّي. واختاره ابن جرير.
ثم قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال.
ثم أعلمهم أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر والسرائر من الأسرار والخواطر، فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهي نعمة الإسلام، أو الأعم على إرادة الجنس، وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم في شكره {وميثاقه الذي وَاثَقَكُم بِهِ} أي عهده الذي أخذه عليكم وقوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ظرف لواثقكم به أو لمحذوف وقع حالًا من الضمير المجرور في {بِهِ} أو من ميثاقه أي كائنًا وقت قولكم: سمعنا وأطعنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته «بتذكير قبولهم» والتزامهم بالمحافظة عليه، والمراد به الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت، وقيل: هو الميثاق الواقع في العقبة الأولى سنة إحدى عشرة، أو بيعة الرضوان بالحديبية، فإضافة الميثاق إليه تعالى مع صدوره عنه صلى الله عليه وسلم لكون المرجع إليه سبحانه كما نطق به قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10].
وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال: هو الميثاق الذي واثق به بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه السلام وفيه بعد.
{واتقوا الله} في نسيان نعمته ونقض ميثاقه، أو في كل ما تأتون وتذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولًا أوليًا {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي مخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليها فيجازيكم عليها، فما ظنكم بجليات الأعمال؟ والجملة اعتراض وتعليل للأمر وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة. اهـ.

.قال السعدي:

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية، بقلوبهم وألسنتهم. فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته، وامتلاء القلب من إحسانه. وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية، وزيادة لفضل الله وإحسانه. و{مِيثَاقَه} أي: واذكروا ميثاقه {الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} أي: عهده الذي أخذه عليكم.
وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق، وإنما المراد بذلك أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما، ولهذا قال: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية والكونية، سمع فهم وإذعان وانقياد. وأطعنا ما أمرتنا به بالامتثال، وما نهيتنا عنه بالاجتناب. وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.
وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم، وتكون منهم على بال، ويحرصون على أداء ما أُمِرُوا به كاملا غير ناقص.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} في جميع أحوالكم {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي: بما تنطوي عليه من الأفكار والأسرار والخواطر. فاحذروا أن يطلع من قلوبكم على أمر لا يرضاه، أو يصدر منكم ما يكرهه، واعمروا قلوبكم بمعرفته ومحبته والنصح لعباده. فإنكم- إن كنتم كذلك- غفر لكم السيئات، وضاعف لكم الحسنات، لعلمه بصلاح قلوبكم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.
عطف على جملة {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] الآية الواقعة تذييلًا لقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] الآية.
والكلام مرتبط بما افتتحت به السورة من قوله: {أوفوا بالعقود} لأنّ في التذكير بالنعمة تعريضًا بالحثّ على الوفاء.
ذكّرهم بنعم مضت تذكيرًا يقصد منه الحثّ على الشكر وعلى الوفاء بالعهود، والمراد من النّعمة جنسها لا نعمة معيّنة، وهي ما في الإسلام من العزّ والتمكين في الأرض وذهاب أحوال الجاهلية وصلاح أحوال الأمّة.
والميثاق: العهد، وواثق: عاهد.
وأطلق فعل وَاثق على معنى الميثاق الّذي أعطاه المسلمون، وعلى وعد الله لهم ما وعدهم على الوفاء بعهدهم.
ففي صيغة {واثقكم} استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه.
و{إذ} اسم زمان عُرّف هنا بالإضافة إلى قول معلوم عند المخاطبين.
والمسلمون عاهدوا الله في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم عدّة عهود: أوّلها عهد الإسلام كما تقدّم في صدر هذه السورة.
ومنها عهد المسلمين عندما يلاقون الرّسول عليه الصلاة والسلام وهو البيعة أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصونه في معروف، وهو عين العهد الذي ذكره القرآن في سورة الممتحنة عند ذكر بيعة النساء المؤمنات، كما ورد في الصّحيح أنّه كان يبايع المؤمنين على مثل ذلك، ومنها بيعة الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحجّ سنة ثلاث عشرة من البعثة قبل الهجرة.
وكانوا ثلاثة وسبعين رجلًا التقَوا برسول الله بعد الموسم في العقبة ومعهم العبّاس بن عبد المطلب، فبايعوا على أن يمنعوا رسول الله كما يمنعون نساءهم وأبناءهم، وعلى أنّهم يأوونه إذا هاجر إليهم.
وقد تقدّم هذه البيعةَ بيعتان إحداهما سنة إحدى عشرة من البعثة، بايعة نَفَر من الخزرج في موسم الحجّ.
والثّانية سنة اثنتي عشرة من البعثة، بايع اثنا عشر رجلًا من الخزرج في موسم الحجّ بالعقبة ليبلّغوا الإسلام إلى قومهم.
ومن المواثيق ميثاق بيعة الرضوان في الحديبية تحت الشجرة سنة ستّ من الهجرة، وفي كلّ ذلك واثقوا على السمع والطاعة في المنشط والمَكْرَه.
ومعنى {سمعنا وأطعنا} الاعتراف بالتّبليغ، والاعتراف بأنّهم سمعوا ما طُلب منهم العهد عليه.
فالسمع أريد به العلم بما واثقوا عليه، ويجوز أن يكون {سمعنا} مجازًا في الامتثال، {وأطعنا} تأكيدًا له.
وهذا من استعمال سَمِع، ومنه قولهم: بايَعوا على السمع والطّاعة.
وقال النّابغة يذكر حالة من لدغته حيّة فأخذوا يرقونه:
تَنَاذَرَهَا الرّاقُون من سُوء سمعها

أي من سوء طاعتها للرقية، أي عدم نجاح الرقية في سمّها.
وعقّب ذلك بالأمر بالتّقوى؛ لأنّ النعمة تستحقّ أن يشكر مُسديها.
وشكر الله تَقواه.
وجملة {إنّ الله عليم بذات الصدور} تذييل للتحذير من إضمار المعاصي ومن توهّم أنّ الله لا يعلم إلاّ ما يبدو منهم.
وحرف «إنّ» أفاد أنّ الجملة علّة لما قبلها على الأسلوب المقرّر في البلاغة في قول بشّار:
إنّ ذاك النجَاح في التبكير

. اهـ.

.قال السلمي:

قوله تعالى وتقدس: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} [الآية: 7].
قال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجل النعم المعرفة، والمواثيق كثيرة وأجل المواثيق الإيمان.
قيل للواسطى رحمة الله عليه: ما الحكمة فيما أنعم الله على خلقه، قال: أنعم عليهم لكى يشهدوا المنعم بالنعم، فاستقطعتم النعمة عن المنعم كما استقطعتهم الآفات عن متوليها.
وقيل: اذكروا نعمة الله فيما أجرى عليكم من معرفته وطاعته.
قال بعضهم: اذكروا نعمة الله عليكم أن جعلكم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن أهل القرآن، وأن زينكم بخدمته وجعلكم من أهل مناجاته حين قال صلى الله عليه وسلم: «المصلى يناجى ربه».
قال أبو بكر الوراق في قوله: {اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} حين زين باطنكم بأنوار معرفته وظاهركم بآداب خدمته.
وقال يحيى بن معاذ: أعظم نعمة عليك أن جعل قلبك وعاء لمعرفته، وأطلق لسانك بحلاوة ذكره، وإن أدبرت عنه خمسين سنة يصالحك باستغفار واحد. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)}.
{اليوم أكملت لكم دينكم} سئل هاهنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصًا قبل ذلك، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مواظبًا على الدين الناقص أكثر عمره؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه: اليوم كمل ملكنا. وزيف بأنّ السؤال بعد باقٍ لأنّ ملك ذلك الملك لابد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصًا.